يوسف الصديق عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
عاش سيدنا إبراهيم مع زوجته سارة بأرض فلسطين ، وبينما هما بدارهما ذات يوم ، أقبل عليهما ثلاثة فتيان تبدو عليهم الوضاءة والطهارة وظنهم سيدنا إبراهيم ضيوفاً نزلوا عليه.
فرح إبراهيم عليه السلام بهؤلاء الضيوف فقام يعد لهم ما اعتاد أن يُعد وبالغ في الإحتفاء بهم لما بدا من مظهرهم من كرم الأصل فقام بذبح عجل سمين وقام بشويه هو وزوجته سارة وقدماه للضيوف ولكن الضيوف لم تتحرك أيديهم إلى الطعام ، فكرر سيدنا إبراهيم عليهم الدعوة ولكنهم لم يقربوا الطعام أيضاً. تعجب إبراهيم عليه السلام من أمرهم هذا ، فما تعود ذلك من الضيوف الذين يردون عليه ، وتوجس منهم خيفة فسألهم :من أنتم ؟ قالوا :لا تخف نحن رسل ربك أرسلنا الله لإهلاك قوم لوط. وقد جئنا إليكما لنبشركما بغلام اسمه إسحق ولنبشركما بأن إسحق سيعيش وينجب أولاداً وسيكون من أولاده يعقوب ، استولت على إبراهيم الدهشة وصكت سارة وجهها وقالت :يا ويلتا ، أألد وأنا عجوز وزوجي شيخ كبير ؟
ولما ذهب الروع عن سيدنا إبراهيم وهدأت نفسه سأل الفتيان :أتذهبون إلى قوم لوط الآن ؟ قالوا نعم وموعدنا معهم الصبح ، فجزع سيدنا إبراهيم على ابن أخيه لوط وسألهم وكيف ينجو لوط ؟ أجابوا نحن أعلم لننجينه وأهله إلا امرأته إنها من الهالكين لأنها لم تستجب لدعوته وأقرت قومها على ارتكاب المنكر.
"هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين..إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون..فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين..فقربه إليهم قال ألا تأكلون..فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف وبشرّوه بغلام عليم..فأقبلت امرأته في صَرّةٍ فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم..قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم..قال فما خطبكم أيها المرسلون..قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين..لنرسل عليهم حجارة من طين..مسومة عند ربك للمسرفين..فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين..فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين..وتركنا فيها آيةً للذين يخافون العذاب الأليم"
(2)
وصدقت البشرى وحملت سارة ووضعت إسحق فشكر إبراهيم عليه السلام ربه وقال :الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق ، إن ربي لسميع الدعاء.
فرحت سارة بولدها ورزقت من بعده إلياس وكبر إسحق وإلياس ثم ما لبثت سارة أن ماتت ودفنت في حبرون وهي مدينة الخليل حالياً .
تزوج إسحق وأنجب غلامين توءمين غير الإناث هما عيصو ويعقوب ، وما لبث أن كبر الأولاد فذهب يعقوب ليعيش مع خاله ويعمل عنده ثم تزوج من ابنة خاله وأنجب منها أيضاً عدد من الأولاد ثم تزوج يعقوب من أخت زوجته وكان غير محرم عندهم أن يجمع الزوج بين الأختين ، ولكن زوجته الجديدة ظلت فترة لا تنجب ثم منّ الله عليها فأنجبت ولداً ما رأت عين أبهى منه شكلاً وفرح به أبواه فرحاً عظيماً وأسمياه يوسف.
(3)
في يوم استيقظ يعقوب على رؤية صادقة وجاء له صوت يقول له أن إسمه منذ اليوم هو إسرائيل ، فأيقن أن الله قد اصطفاه كما اصطفى أباه إسحق وجده إبراهيم من قبل فخر شاكراً لله ، وعاد يعقوب بأهله إلى وطنه مرة أخرى فعاش فيه وبنى مسجداً وسماه بيت إله إسرائيل ثم سمى فيما بعد بيت المقدس.
حملت زوجة يعقوب مرة أخرى وأنجبت أخ ليوسف هو بنيامين ثم ماتت ، وأحب يعقوب ولداه يوسف وبنيامين وكان يغمرهما بحنانه لفقدهما أمهما وهما في سن صغيرة ، كذلك أحبت أخت يعقوب ابن أخيها يوسف وودت لو تأخذه ليعيش معها ولكن أباه كان متعلقاً به بشدة فرفض أن تأخذه عمته ، وسعت العمة بشتى الطرق لتأخذ يوسف وهداها تفكيرها إلى حيلة ، حيث أتت يوسف وهو نائم فأخفت تحت ثيابه قطعة جلدية كانت تملكها ثم أعلنت ضياعها وأخذت تبحث عنها حتى أخرجتها من تحت ثياب يوسف وعندئذٍ طلبت من أخيها أن يبقى يوسف عندها يخدمها حيناً جزاءً له على ما ارتكب من سرقة فتركه أبوه لها وهو يعلم أن يوسف برئ وإنما هي حيلة من أخته لتصل بها إلى يوسف.
ظل يوسف في حضانة عمته حتى ماتت فانتقل إلى أبيه مرة أخرى.
(4)
رأى أخوة يوسف ما يغمره به أبوهم من حب وعطف ، وما يحبوه من رعاية فغاظهم ذلك وحسدوه عليه وودوا لو استطاعوا الإنتقام من يوسف .
وفي إحدى الليالي رأى يوسف في منامه حلماً جميلاً حيره فذهب إلى أبيه يقصه عليه قائلاً : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لي ، فعرف يعقوب عليه السلام أن الله قد منّ على يوسف بمنّة عظيمة وخشي أن يزيد ذلك من حقد إخوته عليه فأسرع يحذّره :يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين ، فإن الله سيعطيك هبة عظيمة من العلم والحكمة ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم .ولكن ما خافه يعقوب وما خشيه على يوسف من كيد إخوته له كان قد دُبّر له وقُدّر.
(5)
"قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون..أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون..قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون..قالوا لإن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون"
لم يستطع إخوة يوسف كتم حقدهم عليه أكثر من ذلك ، فعوّلوا على التخلص منه وتآمروا فيما بينهم والغضب يعمي بصيرتهم على أن يخرجوا بأخيهم إلى الصحراء فيقتلوه ، ولكن كبيرهم لم يقر إخوته على هذا التدبير العنيف ، فقال لهم :ألا تبصّرتم فيما أنتم مقدمون عليه ، وتدبّرتم في شدة وقعه على أبيكم ، وسوء عاقبته عليكم ؟ فقال نفر منهم ، يهونون على أنفسهم ما اعتزموه من فِعل :إن يوسف وأخاه أحب إلى أبينا منا ونحن جماعة وأحق بالحب منهما ، إن أبانا لعلى ضلال وخطأ ، نقتل يوسف ثم نستغفر ربنا ونتوب ونكون من بعده قوماً صالحين . فقال كبيرهم يحاول أن يصرفهم عن قتله ، لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه أحد العرب الرحالة أو قافلة من القوافل. ولما أجمعوا على ما دبروه ليوسف ، ذهبوا إلى أبيهم وقالوا له :يا أبانا نريد أن نصحب يوسف معنا غداً إلى الصحراء ليلعب ، فقال الأب :إن يوسف صغير وأخاف عليه ، قالوا :نحن كبار نستطيع أن نحافظ عليه ونرعاه ، ولكن يعقوب لم يكن ليأمن على يوسف شر إخوته وخاف أن يبطشوا به أو يهملوه فيصيبه مكروه فقال يتعلل لهم ليكفوا عنه :إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم في غفلة عنه ، ولكن الإخوة قالوا في رفق مخادع :لا خير فينا إن أكله الذئب ونحن جماعة . ولما لم يجد يعقوب علة أخرى يتعلل بها لأولاده ليصرفهم بها عن يوسف أذن لهم أن يأخذوه .
وما كادوا ينفردون به بعيداً عن البرية حتى وصلوا به إلى الجب فخلعوا عنه قميصه ثم ألقوه ..لم ترقق قلوبهم ، ولم تلن عاطفتهم وسمعوا بكاؤه وصراخه ولكنهم انصرفوا عنه .
وكان الله بيوسف شفيقاً رحيماً ، فكفاه في الجب هول الفزع وجنبه وحشة الوحدة بما أوحاه إليه.
نزل عليه جبريل الملك الأمين رسولاً من عند الله فحمل ليوسف معاني كثيرة ..ألا يخاف ولا يجزع حتى يأتيه الله بالفرج القريب ، وأيقن أن الله سينجيه من محنته هذه .
عاد الأخوة إلى أبيهم مساءً يبكون أحر بكاء وقالوا له : ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند ثيابنا فأكله الذئب ، وكانوا يعرفون أن أباهم لن يبرئهم فزادوا قائلين :وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ، وأرادوا تأييد قولهم الكاذب بالحجة الزائفة فأخرجوا إلى أبيهم قميص يوسف وقد لطخوه بدم حيوان ذبحوه وعرضوه عليه ، ونظر يعقوب إلى قميص ولده فوجده سليماً لا أثر فيه لقطع ظفر أو لتمزيق ناب فلم يخف عليه غدرهم بيوسف .وقال يتهمهم :بل أضمرتم في أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان .
بقى يوسف في الجب ثلاثة أيام ، حتى جاءت قافلة كانت متجهة من الشام إلى مصر ، فلما مروا بالقرب من البئر التي بها يوسف ، أرسلوا إليها نفر منهم يجلبون منها حاجتهم من الماء .
وأدلى رجل منهم بدلوه في الجب ثم جذبها وهو يحسبها قد امتلأت ماء لثقلها ، وما كان أشد دهشته حين رأى غلاماً وسيماً فصاح فرحاً :يا بشرى هذا غلام ، فالتفت أصاحبه حول يوسف ولم يحاولوا أن يتعرفوا حاله بل أخذوه كالبضاعة زاهدين فيه وارتحلوا مع القافلة. فما كادوا يدخلون به مصر حتى باعوه في سوق الرقيق بثمن بخس ليتخلصوا منه . وكان الذي اشتراه وزير مصر والمتصرف في شؤن ماليتها .
أعجب هذا الوزير بيوسف أيما إعجاب لما آنسه فيه من أدب جم ووداعة بريئة وتمنى أن يتخذه ولداً وكان لا ولد له ، فآثره بمحبته وعطفه وجعله في داره وأوصى الوزير زوجته بيوسف خيراً وقال لها :أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.
شب يوسف في دار الوزير فكان المهيمن على شؤنه والمتصرف في مهامه بأمانة ودراية بما أتاه الله من علم ووهب له من حكمة.
وهكذا مكن الله ليوسف في مصر بما أتى عليها بعد ذلك بالخير والسعد .
***************************************