سقوط غرناطة ..من مأسى التاريخ الإسلامي
انفرط عقد الأندلس، ودب الضعف في أوصالها، بعد هزيمة المسلمين في معركة العقاب الشهيرة، التي جرت أحداثها في (15 من صفر 609 هـ= 16 من يوليو 1212م) بين دولة الموحدين والجيوش الإسبانية والأوروبية المتخالفة، وسارت الأمور في طريقها السيئ، فاجتاح الغزو النصراني بلا هوادة إسبانيا المسلمة، وتساقطت قواعد الأندلس وحواضرها التالدة شرقًا وغربًا في يد النصارى، فسقطت "قرطبة" سنة (633 هـ = 1236م) و"بلنسية" سنة (636هـ= 1238هـ) و"إشبيلية" سنة (644 هـ = 1248م). وفي الوقت نفسه اجتاحت غرب الأندلس موجة عاتية من الغزو النصراني، فسقطت "بطليوس" سنة (627هـ = 1230م) "وشلب" سنة (640 هـ= 1242م) وغيرهما.
ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها قد سقطت في يد إسبانيا النصرانية، ولم يبق من دولة الإسلام في الأندلس سوى بضع ولايات صغيرة في الطرف الجنوبي من الأندلس.
غرناطة والصمود
وشاءت الأقدار أن تقوم في هذه الرقعة الصغيرة مملكة غرناطة، التي نجحت في أن تذود عن دولة الإسلام أكثر من قرنين من الزمان، وأن تواجه ببسالة -على الرغم من صغر المساحة وضعف الإمكانيات- إسبانيا النصرانية بكل ما تملكه من قوة وعتاد، وأن تقيم بين ربوعها حضارة عظيمة، حفلت بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية، ولا تزال آثارها الباقية شاهدة على ما بلغته غرناطة من تحضر ورقي.
وكان قيام هذه المملكة في سنة (629هـ = 1232م) على يد "محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر" الذي التف الناس حوله لشجاعته ومجاهدته العدو، ونجح في أن يوطد سلطانه في هذه المنطقة، ويوسع من نطاق دولته الوليدة، حتى نمت سريعًا وأصبحت دولته تضم ثلاث ولايات كبيرة، هي: ولاية غرناطة في الوسط، وفيها العاصمة "غرناطة" وولاية "المرية" في الشرق، وولاية مالقة في الجنوب والغرب، ووصلت حدودها إلى شاطئ البحر المتوسط وجبل طارق.
تتابع الأمراء من أسرة بني النصر على حكم غرناطة، وهي تحاول أن تصمد في وجه إسبانيا النصرانية، وتحافظ على ما بقي من تراث المسلمين في الأندلس، مرة بالجهاد والاستعانة بإخوانهم من أهل المغرب، ومرة بعقد المعاهدة السلمية مع قشتالة.
وظل الأمر على هذا النحو حتى تولى أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر حكم غرناطة، في مطلع القرن التاسع الهجري، وكان أميرًا قاسيا سيئ الخلال، متعاليًا على أهل دولته، واتسم عهده بسوء الأحوال، واشتد سخط الناس، واشتعال الفتن والثورات، ولم تفلح محاولات وزيره يوسف بن سراج من تهدئة الأوضاع في الإمارة المضطربة، وكانت تلك الفتن والقلاقل التي تموج بها غرناطة، تجد عونًا من بلاط قشتالة المسيحية التي كانت قبلة زعماء الثائرين.
وفي خضم تلك الفتن المتلاطمة زحف القشتاليون إلى غرناطة وعاثوا فيها فسادًا في سنة (831هـ=1428م) ولم يفلح "الأيسر" في رد العدوان عن أرضه، مما كان له أثره في انفجار بركان الثورة في غرناطة، ولم تهدأ الأحوال إلا بعد أن نجح الثوار في عزل "الأيسر" الذي نجا بنفسه وأهله وبعض رجاله إلى "تونس" وتمت تولية ابن أخيه الأمير "محمد بن محمد بن يوسف الثالث" الملقب بالزغير.
حاول الأمير الجديد أن يعيد الأمن في البلاد، ويخمد الفتن والدسائس التي كانت سببًا في زعزعة الاستقرار، ولكن محاولاته ضاعت سدى، فقد اتفق الوزير يوسف بن سراج مع "خوان الثاني" ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر السابق إلى العرش، فنجحت المحاولة ورجع السلطان السابق إلى عرشه سنة (833هـ= 1430م).
بدأ السلطان الأيسر عهده الجديد بتنظيم أمور الإمارة، فأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة، وطلب من ملك قشتالة تجديد الهدنة، فاشترط لتجديدها أن يؤدي السلطان الأيسر ما أنفقه البلاط القشتالي في سبيل استعادة عرشه، وأن يؤدي فوق ذلك جزية سنوية؛ اعترافًا منه بدخوله تحت طاعة قشتالة، وأن يفرج عن الأسرى الذين في حوزته.
خيانات البيت الواحد
ولم يكن أمام السلطان الأيسر إزاء هذه الشروط المجحفة إلا الرفض، وتهديد قشتالة بإعلان الحرب، فاستعدت قشتالة للحرب، وأرسلت سفراءها ومعهم هدايا ثمينة إلى أبي فارس الحفصي سلطان "تونس" وعبد الحق المريني سلطان "فاس" يطلبون منهما عدم التدخل في شئون غرناطة، فاستجابت الدولتان.
اشتعلت الفتن مرة أخرى في غرناطة، وحلت القلاقل أرجاء الإمارة التي انقسمت على نفسها، وألقت قشتالة بجيشها على مقربة من غرناطة، تترقب الفرصة للانقضاض على المملكة التي أوشكت على السقوط، ودُبّرت مؤامرة لخلع الأيسر قام بها خصومه، فالتفوا حول واحد من بيت الملك، يدعى "أبو الحجاج يوسف بن المول" فمال إلى ملك قشتالة طالبًا العون على انتزاع العرش لنفسه، في مقابل تعهده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة وتمت طاعته.
وفي (7 من المحرم سنة 835 هـ= 16 من سبتمبر 1431م) وقّعت معاهدة بين "يوسف بن المول" و"خوان الثاني" ملك قشتالة، لتحقيق هذا الهدف، متضمنة بنودا مهينة للطرف المسلم، نصت على إقرار من "يوسف" بأنه من أتباع ملك قشتالة وخُدّامه، وتعهد منه بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار ذهبي، وإطلاق سراح الأسرى المسيحيين، وأن يقدم يوسف ألفا وخمسمائة فارس إلى ملك قشتالة لمحاربة أعدائه سواء أكانوا من النصارى أو المسلمين.
وفي مقابل هذه التنازلات يتعهد الطرف القشتالي بأن يكون الصلح مستمرًا طوال حكم يوسف ومن يخلفه من أبنائه، وأن يعينه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وطبقا لهذه المعاهدة وتنفيذًا لبنودها تحركت القوات القشتالية لمعاونة يوسف في حربة مع السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معكرة شديدة، انتهت بهزيمة الأيسر، ودخول يوسف غرناطة ظافرًا بمؤازرة النصارى القشتاليين، وجلس على عرش السلطنة في (جمادى الأولى 835 هـ = يناير 1432م) وكان أول ما فعله يوسف أن جدّد المعاهدة مع ملك قشتالة باعتباره سلطان غرناطة.
وبهذه المعاهدة قطعت قشتالة خطوة كبيرة في سبيل تحقيق أمنيتها، وإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا، وهذا ما حدث بعد سنوات قليلة.